رواية خطيئة آمرأة

 خطيئة امرأه


البارت الاول


   -   تبدأ الحكاية في سجن النساء حيث كانت الفتاة المدعوة   "   حنان قاسم   "   البالغة من العمر ثمانية وعشرون عاماً تودع النسوة اللواتي تشاركت معهن الزنزانة لمدة خمس سنوات طويلة واصبحن جزء من حياتها رغماً عنها وقد انتابها شعورغريب حين خرجت برفقة الشرطية وسارت خلفها حتى وصلت الى مكتب المفوض حيث ستقوم بالتوقيع على التعهد بعد انقضاء مدة محكوميتها لقاء جريمة القتل التي ارتكبتها بحق زوج امها قبل خمس سنوات   ,   في الواقع هي لم تتعمد قتله اذ انها كانت فتاة ناعمة وبسيطة لا تحب العنف ولكن الرجل كان حقير بكل ما تعنيه الكلمة حيث كان يضرب امها بكرةٍ وعشيا سواء ان اخطأت المرأة ام لم تخطئ لهذا لم تتحمل الفتاة ان يتم ظلم امها المسكينة اكثر خصوصاً عندما تمادى الرجل بقسوته ذات يوم حيث كان ثملاً بالكامل واخذ يضرب زوجته بطريقة وحشية وصادف ان عادت هي من عملها في المساء ورأته يكاد يقتل امها لذا هرعت لتساعدها ولكنه دفعها بعيداً فأوقعها ارضاً لذا لم تشعر بنفسها كيف امسكت اناء الزهور الفخاري الذي كان على الطاولة القريبة منها ومن ثم ضربته على رأسه بكل ما أوتيت من قوة فأوقعته قتيلاً   .

لقد حدث الأمر بسرعة وبدون وعي منها وبناء على ذلك تمت ادانتها بجريمة قتل ومن سوء حظها ان شقيقة الرجل الذي قتلته وكلت محامي خبيث لكي يتهمها بشتى الطرق حتى لا يقوم القاضي بتخفيف الحكم عنها اذا ما نظر الى القضية على انها جريمة قتل غير متعمد ؛ لهذا تم سجنها لمدة خمس سنوات متتالية والمثير للشفقة ان امها توفيت قهراً عليها بعد ثلاثة اسابيع من دخولها الى السجن كما ان خطيبها الذي وعدها بالزواج والذي احبته بصدق فسخ خطوبته منها بشكلٍ جارح ولم يكلف نفسه عناء تعيين محامي يدافع عنها مما جعلها تشعر بالألم يعصف في قلبها الجريح ، وشيئاً فشيئاً اصبح فؤادها فارغاً وكأن رغبتها في الحياة قد انتهت   . 

ولكن وبالرغم من المعاناة التي عاشتها خلف القضبان وحزنها على موت امها وعدم مشاركتها في العزاء استطاعت ان تتأقلم على نمط الحياة في السجن تدريجياً وما ساعدها اكثر وأنس وحشتها هو تعرفها على امرأة كانت سجينة ايضاً وتكبرها بخمس سنوات وتدعى   "   فاطمة   "   حيث عاملتها هذه الأخيرة بلطف لأن جراحهما متشابهة فهي قتلت زوجها لأنه كان يضربها بقسوة كما لو انها جارية عنده مما جعلها تشعر بألم حنان   ,   ومنذ ذلك الوقت أصبحن صديقتين مقربتيّن ولا يفترقن عن بعضهن ابداً الى حين جاء اليوم الذي خرجت فيه فاطمة من السجن قبل حنان بشهر واحد حيث ان مدة محكوميتها قد انتهت ايضاً وقد وعدت حنان بأنها ستقوم بزيارتها في كل فرصة تسنح لها بفعل ذلك وعندما علمت ان صديقتها ستخرج من السجن قريباً دعتها للعيش معها فوافقت حنان دون تردد لأنها كانت تعلم انه عندما يحين موعد خروجها من السجن ستكون مشردة تماماً فالمنزل الذي كانت تعيش فيه هي وامها كان ملكاً للرجل الذي قتلته ومن المستحيل ان تعود اليه بعدما قتلت مالكه كما أن المال القليل الذي وفرته والذي جنته من عملها في التطريز اثناء تواجدها بالسجن ليس كافياً لكي تستأجر شقة تأويها لذا بدى لها اقتراح صديقتها فاطمة هو الحل الأمثل   .  

  -   عندما وطئت قدمها الارض خارج البوابة الكبيرة للسجن واستنشقت هواء الحرية انهمرت دموعها كالسيل الجارف وكان اول شيء تريد فعله هو زيارة قبر امها ؛ فمسحت دموعها ورتبت ملابسها البسيطة المكونة من تنورة طويلة سوداء اللون وقميص كحلي ذو اكمام طويلة ثم غطت شعرها الذهبي بالوشاح الأسود الذي كان معلقاً حول عنقها وبعدها حملت حقيبة ملابسها الخفيفة والتي كانت تحتوي على القليل من الملابس ثم شقت طريقها بأتجاه الشارع الرئيسي ووقفت على حاشية الطريق تحاول ايقاف سيارة اجرة ؛ اما في مكان اخر من المدينة وفي المستشفى العام بالتحديد فكان هنالك طبيب شاب يبدو في منتصف الثلاثينيات يقوم بمعاينة امرأة طاعنة في السن في قسم الطوارئ   .     .     .   نظر الى الممرضة التي كانت واقفة الى جانبه وقال بصوت رزين   :   ان المريضة تعاني من ارتفاع حاد بنسبة السكر في دمها لذا اعطيها حقنة إنسولين فورية واطلبي من مرافقتها ان تحرص على جعلها تستريح حتى يأخذ الدواء مفعوله بشكلٍ جيد   . 

  أومأت الممرضة رأسها قائلة   :   حاضر يا دكتور   .  

اما هو فتمنى للمرأة الشفاء العاجل وهم بالمغادرة واثناء سيره في الممر الطويل اخرج هاتفه المحمول من جيب معطفه الأبيض وسرعان ما طلب رقماً ووضع الهاتف على اذنه ثم وقف ينتظر ان يجيب الطرف الأخر ؛ وما هي الا ثواني حتى سأل   :   اين انت يا صديقي ؟ 

فسمع صوت رجولي من الطرف الأخر قائلاً   :   انا في غرفة الأستراحة   ,   هل انهيت معاينة مرضاك ؟ 

تنهد الطبيب وقال   :   ليس بعد ولكنني بحاجة لبعض الراحة فانا لم انام طوال الليلة الماضية   .  

رد عليه الرجل الأخر   :   حسناً تعال لتستريح قليلاً وانا سأقوم بمعاينة مرضاك بالنيابة عنك   .  

فابتسم الطبيب وسأله   :   هل ستفعل ذلك حقاً يا احمد ؟ 

اجابه المدعو احمد بصوت جاد   :   اجل فنحن صديقين وهذا اقل ما استطيع ان افعله من اجلك   .  

تنهد الطبيب مجدداً وقال بشيء من الجدية   :   ولكنك بهذه الطريقة ترهق نفسك فانت اصبحت مهوس عمل منذ ان توفيت   .     .     .     .  

في تلك اللحظة قاطعه الدكتور احمد قائلاً بأنفعال   :   رجاءً يا منير لا داعي لأن تكرر اسطوانتك المعهودة فانا حفظتها عن ظهر قلب لذا ان كنت ترغب بأن اقوم بأخذ مرضاك فانا مستعد لفعل ذلك   .  


هز الدكتور منير رأسه بقلة حيلة ومسح وجهه براحة يده قائلاً   :   لا داعي لذلك فانت قمت بأجراء جراحة صعبة في الصباح لذا يجب ان تأخذ اكبر قسط من الراحة لأنك ستناوب طوال الليل وانا سأهتم بمرضاي فهم ليسوا كثر   . 

فتنهد الدكتور احمد على الجانب الأخر واردف   :   حسناً   ,   كما تريد   .  

منير   :   احمد   ,   شكراً لك يا صديقي   .  

احمد    :   لا داعي للشكر فانا لم افعل شيئاً   .   

منير   :   يكفي انك عرضت المساعدة وهذا يعني لي الكثير   .  

 احمد   :   لا تقل هذا فنحن صديقين وزملاء عمل   .  

منير   :   حسناً اذن   ,   انا مضطر لكي انهي المكالمة   .  

احمد   :   حسناً   ,   سأراك في ما بعد   .  


  -   ثم انهى الدكتور منير المكالمة وذهب ليقوم بمعاينة مريض اخر   ,   اما الدكتور احمد فكان متمدداً على الأريكة الخضراء في غرفة استراحة الأطباء وكان رجلاً وسيماً في الخامسة والثلاثين من عمره ذو جسد رشيق ومفتول العضلات وشعر اسود كثيف وناعم تكسوه بضع خصلات بيضاء وذقن خفيفة وبشرة برونزية وعيون بنية تخفي حزناً دفيناً ؛ كان ينظر الى نقطة معينة في سطح الغرفة ومن الواضح انه كان شارد الذهن لدرجة انه لم يسمع رنين هاتفه الذي دوى صوته في ارجاء الغرفة الى حين دخلت طبيبة شابة ذات قوام رشيق وشعر بني طويل وعيون عسلية فوقفت تحدق به وقد ارتسم الأسى على وجهها الناعم   .     .     .   هزت رأسها واقتربت منه ثم اخذت هاتفه عن الطاولة وعندما قرأت اسم المتصل تنهدت ونظرت اليه ثم اردفت قائلة   :   انها ابنتك يا احمد لما لا تجيب على اتصالها ؟ 

في تلك اللحظة فقط استفاق احمد من شروده ونظر الى الطبيبة كمن تفاجئ بوجودها ثم اعتدل بجلوسه قائلاً   :   اوه جوري   ,   متى دخلتي الى هنا ؟

فقالت جوري : منذ قليل ولكنك كنت شارد الذهن لهذا لم تلاحظني .


فنهض احمد ثم اخذ هاتفه من يدها قائلاً : لقد كنت افكر في امر معين لذا اعذريني .


قال ذلك ثم اجاب على الهاتف بصوت حنون : ما الأمر يا أميرتي الجميلة ؟


في تلك اللحظة سمع صوت طفولي يقول : ابي هل تعلم ان غداً يصادف عيد ميلادي ؟ 

ابتسم احمد عندما سمع ذلك وعلى اثر ابتسامته ابتسمت الدكتورة جوري وكتفت ذراعيها وهي تسمع حديثه اللطيف مع ابنته الصغيرة بينما قال هو : بالطبع اعلم هذا يا صغيرتي لذا اخبريني ما  الهدية التي تريدينها ؟ 

فقالت الطفلة بصوت خافت بعض الشيء : انا اشعر بالأشتياق الى أمي لذا خذني لكي ازورها ولا اريد اي هدية .


في تلك اللحظة ارتسمت قسمات الألم على وجه احمد وقد تحشرج صوته وهو يقول : انتِ تعلمين يا حبيبتي اننا لا نستطيع الذهاب الى المكان الذي تتواجد به امكِ فهو بعيد جداً ونحن لا نستطيع الوصول اليه ابداً .


بدأت الطفلة تبكي قائلة : ولكنني اريد رؤيتها في عيد ميلادي .


فلم يستطيع احمد ان يحتمل أكثر من ذلك لذا اعطى هاتفه الى الدكتورة جوري وخرج من الغرفة بينما تنهدت الأخيرة ورسمت بسمة على وجهها حين وضعت الهاتف على اذنها وقالت بنبرة لطيفة : راما حبيبتي انا العمة جوري اخبريني كيف حالكِ يا عزيزتي ؟ 

اجابتها الطفلة راما قائلة من بين شهقاتها   :   انا لست سعيدة يا عمتي لأنني طلبت من ابي ان يأخذني لزيارة امي في عيد ميلادي ولكنه اخبرني بأننا لا نستطيع الذهاب   .  

في تلك اللحظة ترقرقت الدموع في عيون جوري وقالت بصوت كاد ان يختنق   :   حسناً يا حبيبتي   ,   توقفي عن البكاء وانا وعمكِ منير سنأتي لنحتفل معكِ ومع والدكِ غداً وسنحضر لكِ الكثير من الهدايا والألعاب التي تحبينها   .  


فقالت راما   :   ولكنني لا اريد اي هدايا فقط ارغب برؤية امي   .  

مسحت جوري الدمعة التي انسابت على خدها واردفت قائلة بشيء من الجدية   :   راما انتِ تعلمين ان امكِ ذهبت الى الجنة ونحن لا نستطيع الوصول الى هناك كما ان والدكِ سيشعر بالحزن ان اصريتي على الذهاب الى حيث تتواجد امك لذا اخبريني هل تريدين ان تجعليه حزيناً ؟


فمسحت راما دموعها بيديها الصغيرتين وقالت بصوت طفولي   :   لا   ,   لا اريد ذلك   .  


جوري   :   اذاً لا تطلبي منه ان يأخذكِ لزيارة امكِ مجدداً فهو لا يستطيع فعل ذلك وايضاً ان توقفتي عن البكاء سأخذكِ غداً للعب في مدينة الملاهي فما رأيكِ ؟ 

راما   :   حسناً   .  

ابتسمت جوري وقالت   :   حسناً اذاً   ,   هي اغلقي الهاتف الان واخبري دانا بأن تصنع لكِ شيئاً لذيذا اتفقنا   .  

راما   :   حسناً   ,   الى اللقاء   .  


ثم انهت المكالمة واعطت الهاتف للفتاة الفيلبينية التي كانت تجلس بجوارها وقالت لها   :   لقد اخبرتني العمة جوري بأن اطلب منك ان تصنعي لي شيئاً لذيذاً   .  


فابتسمت الفتاة الفيلبينية المدعوة دانا وقالت بلهجة عربية مكسرة   :   بالطبع سأفعل يا عزيزتي   ,   هيا تعالي معي   . 

 

اما جوري فخرجت لكي تبحث عن احمد فوجدته جالساً على درج الطوارئ غارساً اصابع يديه بين خصلات شعره ويحني رأسه بأسى ؛ تنهدت بعمق ثم اقتربت منه وسرعان ما جلست بجواره ووضعت يدها على كتفه قائلة   :   حباً بالله لا تفعل هذا بنفسك يا احمد فانت يجب ان تكون قوياً من اجل ابنتك   . 


  ابتسمت جوري وقالت   :   حسناً اذاً   ,   هي اغلقي الهاتف الان واخبري دانا بأن تصنع لكِ شيئاً لذيذا اتفقنا   .  


اما هو فلم يخجل من اظهار دموعه التي انسابت رغماً عنه بل قال بصوت مجروح   :   ان كنت انا ذات نفسي لا زلت غير مصدق ان ليان رحلت عن هذا العالم فما بالكِ بابنتي راما فهذا اول عيد ميلاد يأتي عليها ولا تكون امها معها   .  


ضغطت جوري على كتفه وقالت   :   ان ما حدث لزوجتك ما هو الا قضاء الله وقدره يا احمد وانت طبيب وتعلم انه سيأتي يوم سنموت به جميعنا   .  


فنظر اليها وقد التهبت عيناه بغضب عارم وقال بشيء من الحدة   :   لو انها توفيت بطريقة عادلة لتقبلت الأمر بالرغم من الحزن الذي اشعر به ولكنها قتلت دون ذنب وهذا ما يشعل النار في قلبي   .  


جوري   :   على الأقل لقد تم القاء القبض على المجرم الذي قتلها بغير ذنب وتم الحكم عليه بالسجن المؤبد وصدقني ان المكوث بين اربعة جدران طيلة ايام حياته سيكون اسوء بكثير من الموت وانا واثقة ان الله سيلحق به عقاب يستحقه لأنه ازهق روح زوجتك ، لذا تحلى بالقوة فقد مر على وفاتها ما يقارب الستة اشهر حتى الأن واعتقد انه آن الآوان حتى تتوقف عن التفكير بهذا الموضوع على الأقل من اجل ابنتك   .  


 هز احمد رأسه بحركة تنم عن الأرهاق وقال   :   ان الكلام سهل جداً   ,   انتِ تقولين هذا لأنكِ لم تجربي ان تفقدي شخصاً عزيزاً على قلبكِ وبالتالي لا تعرفين كم هو مؤلم هذا الشعور   .  


جوري   :   ومن اخبرك انني لم افقد شخصاً عزيزاً على قلبي ام انك نسيت أن ليان كانت صديقتي ايضاً ؟

فتنهد احمد واردف   :   لا لم انسى ولكن ما اقصده ان شعوري مختلف عما تشعرين به انتِ فهي كانت حبيبتي وزوجتي وام ابنتي وكل حياتي وقد اختفت فجأة وبطريقة بشعة   .  

في تلك اللحظة صمتت جوري لأنها لم تعرف ما الذي يجب عليها ان تقوله لهذا الرجل ذو القلب المفطور ولكن صمتها لم يدوم طويلاً حيث استطردت   :   ما رأيك بأن تأخذ اجازة وتذهب انت وراما برحلة الى احدى الدول الأستوائية   ,   ان التغير سيكون جيداً من اجل حالتكما النفسية   . 

 

فقال احمد بعد ان استعاد رباطة جأشه   :   ها قد اصبحتِ تتحدثين مثل زوجكِ فهو اقترح عليّ هذا الأمر ايضاً ولكنني لا استطيع الذهاب وترك العمل ثم ان راما ستخسر الكثير من الدروس ان ذهبنا في رحلة لأن العطلة المدرسية لم تأتي بعد   .  


تنهدت جوري واردفت   :   حسناً كما تريد   ,   سأذهب الأن ولكن ان احتجت لأي شيء اتصل بي اتفقنا ؟ 


فابتسم احمد بالرغم من حزنه الظاهر على وجهه وقال   :   شكراً لكِ جوري   .  


  -   ثم غادرت جوري وتركته جالساً بمفرده مع احزانه وسرعان ما نهض بعد ان فكر قليلاً وقرر ان يذهب لمساعدة صديقة الدكتور منير على معاينة المرضى لعله يستطيع ان ينسى الحزن على الأقل لبرهة قصيرة   ,   اما بالنسبة الى حنان فكانت واقفة بالقرب من قبر امها تقرأ سورة الفاتحة والدموع تنهمر من عيونها بصمت وبعدما انتهت من تلاوة السورة انحنت واخذت تنتزع العشب النامي على القبر واردفت قائله بصوت اختنق تحت الدموع   :   انا اسفة يا امي   ,   لم استطيع زيارتكِ في وقت سابق ولكنكِ تعلمين الظروف التي منعتني من القدوم لذا سامحيني ارجوكِ واطلبي لي المغفرة فانا والله لم اقصد قتل مراد وقد ندمت على فعلتي اشد الندم   .  


في تلك اللحظة سمعت صوت رجولي ابح يقول لها   :   ان كنتِ نادمة حقاً فالله سيغفر لكِ ذنبكِ يا ابنتي فهو الغفور الرحيم   .  


فالتفتت حنان الى الخلف واذ بها ترى رجل عجوز ظهره منحني ومن ينظر الى وجهه يشاهد تجاعيد الزمان وقد كان يحمل بيديه النحيلتين مكنسة قش عصاها طويلة وكان يكنس بها اوراق الأشجار التي اسقطتها ريحاح الخريف وجعلتها تكسو الأرض لتبدو وكأنها تلبس ثوب من اللون الذهبي الممزوج بالبرتقالي ؛ مسحت دموعها و لا تعلم لما شعرت بالراحة بعد رؤية ذلك العجوز الذي يبدو ان الدهر قد جار عليه فقالت   :   لقد قتلت زوج امي بغير قصد يا عم ولكنني اقسم بأنني فعلت ذلك دون وعي فهو كاد ان يقتلها وقد تم سجني لمدة خمس سنوات واليوم تم الأفراج عني لهذا انا لم اتمكن من زيارة قبر امي طوال هذه المدة   .  


أومأ الرجل برأسه وكأنه يفهمها وقال   :   انا اعمل في هذا المكان منذ خمسة عشر عاماً واذكر جيداً اليوم الذي تم فيه دفن امك ولم يحضر جنازتها الكثير من الناس لهذا علمت بانها كانت امرأة وحيدة لا تمتلك اقرباء   .  


تدحرجت دمعة من عين حنان عندما سمعت ذلك وقالت وهي تنظر الى قبر امها   :   هذا صحيح فأمي لم تكن تمتلك اي اقرباء وقد توفي والدي عندما كنت في الخامسة عشر من عمري فكان لا بد وان تتزوج امي مجدداً من رجل ظنت انه سيكون سنداً لها واب جيد لي ولكنه خذلنا لانه كان سكير عصبي المزاج ويضربنا بسبب او بدون سبب وقد تمادى بقسوته على امي ذات يوم لهذا   .     .     .     .  

قاطعها الرجل بقوله   :   ما فات قد مات يا ابنتي وعفا الله عما سلف لهذا انسي ما حدث وسأعطيك نصيحة ، ان اردتِ العيش في هذه الدنيا كوني لينة من غير ضعف وقوية من غير عنف وتوكلي على الله في كل خطوة تخطينها وكفى بالله وكيلا   .  


قال ذلك ثم ابتسم لها ابتسامة صادقة دون ان تظهر اسنانه وعاد ليكنس الأرض بصمت اما هي فتنهدت ومسحت دموعها ثم تمتمت قائلة   :   ونعم بالله   .  


بعدها حملت حقيبة ملابسها وهمت بالمغادرة   ,   وما هي الا مدة وجيزة قد انقضت حتى وصلت الى حي فقير   .     .     .   اخرجت ورقة صغيرة من جيب تنورتها الطويلة ثم قرأت العنوان المكتوب فيها وحدثت نفسها قائلة   :   اعتقد انني وصلت الى العنوان المحدد فأي واحد من هذه البيوت هو بيت فاطمة ؟ 


ثم اخذت تتلفت حولها لعلها تجد شخصاً تسأله فوقع نظرها على امرأة في اوائل الخمسينيات كانت تسير بشكلٍ اعرج وهي تحمل اكياساً فتوجهت نحوها وقالت   :   ارجو المعذرة يا خالة ولكن هل تعرفين اين يقع منزل فاطمة ابراهيم ؟ 


التفتت المرأة اليها وسألتها   :   هل تقصدين فاطمة التي قتلت زوجها ؟ 

أرتبكت حنان وقالت بتوتر   :   اجل هي   .  

في تلك اللحظة رمقتها المرأة بنظرة فاحصة من رأسها حتى اخمص قدمها وسألتها بصوت خشن   :   وكيف تعرفينها   ,   هل انتِ احدى معارفها ؟ 

حنان   :   اجل فهل تستطيعين اخباري اين يقع منزلها  ؟


ردت المرأة بشيء من القسوة   :   انها امرأة سيئة قتلت زوجها دون شفقة وجميع من في الحي يتجنبون الأقتراب منها لذا ان اردتِ نصيحتي لا تختلطي بها كثيراً   .  

فتنهدت حنان بنفاذ صبر وقالت بتأني   :   اشكركِ من اجل النصيحة يا خالة   ,   ولكن انا اعلم انها لم تقتل زوجها عمداً كما انني اعرف قصتها بالكامل فهل تستطيعين اخباري اين هو منزلها من فضلكِ ؟

قطبت المرأة حاجبيها بتكشيرة وكأن ما قالته حنان لم يعجبها لذا خرج صوتها حاداً بعض الشيء وهي تقول   :   ان مشيتي بهذا الطريق في خط مستقيم ومن ثم ذهبتي الى جهة اليمين ستجدين منزل صغير امامكِ بجانبه شجرة بلوط كبيرة ويحيط به سياج قديم من الخشب   ,   انه منزل فاطمة الذي ورثته عن والدها   .   

ابتسمت حنان بلطف وكم بدت جميلة كنجمة وحيدة في عتمة الليل وقالت   :   شكراً لكِ يا خالة   .  

ثم شقت طريقها نحو منزل صديقتها فاطمة ، في الواقع هي فتاة ذات ملامح جذابة بغض النظر عن الأسى المرتسم على وجهها المستدير وتتمتع بعيون عسلية مخضرة ورموش كثيفة وبشرة حنطية صافية وفم اخذ لونه من حمرة الورد بينما كان شعرها ذهبياً يصل الى منتصف ظهرها ولم يكن ناعماً كالحرير بل كان يتميز بنعومة متموجة اعطته رونقاً خاصاً ، بالإضافة الى ان جسدها كان متناسقاً فهي لم تكن نحيفة او سمينة ولا طويلة او قصيرة بل كان طولها معقولاً ووزنها مقبولاً فعندما وصلت الى منزل فاطمة وقفت تحدق بالمبنى الصغير الذي كانت جدرانه الخارجية مهترئة بعض الشيء بينما كان السياج متأكلاً ولكن بالرغم من ذلك الا ان حديقة المنزل الصغيرة التي تضم بضع شجيرات مزهرة اعطته رونقاً مريحاً وجعلته يبدو دافئاً وخصوصاً لأنها كانت نظيفة ومرتبة وتخلو من الأعشاب الضارة   .  

حملت حقيبتها جيداً ثم فتحت البوابة الصغيرة ودخلت الى الحديقة ومن ثم شقت طريقها بأتجاه باب المنزل الذي كان مصنوع من الخشب القديم ؛ قرعته بخفة ووقفت تنتظر ان تفتح لها فاطمة الباب وما هي الا دقيقة حتى فُتح الباب واطلت منه امرأة في الثلاثينيات من عمرها اقصر من حنان وذات جسد ممتلئ بعض الشيء وشعر اسود طويل يصل الى خاصرتها وقد كانت امرأة عادية ليست فائقة الجمال وبعيدة كل البعد عن البشاعة تتمتع بعيون بنية واسعة وكحيلة وبشرة وردية وفم صغيرمنتفخ   .     .     .   ابتسمت بإشراقة عندما رأت حنان مما جعلها تصبح جميلة بغض النظر عن التجاعيد التي ظهرت حول عينيها وسرعان ما عانقت الفتاة بقوة واردفت قائلة بصوت تغلب عليه بحة ربانية   :   اوه يا حبيبتي   ,   لما لم تخبريني ان اليوم هو موعد خروجكِ من السجن لكنت ذهبت لأستقبالك بنفسي   .  

فابتسمت حنان وابتعدت عنها قليلاً ثم قالت   :   لقد علمت بذلك هذا الصباح   ,   اخبريني كيف حالكِ ؟ 

فاطمة   :   لقد كنت بخير ولكنني اصبحت افضل بعد ان رأيتكِ   ,   هيا تفضلي بالدخول   .  

 وبالفعل دخلت حنان برفقة فاطمة الى المنزل فوجدته منزل متواضع جداً ومرتب لدرجة انه يبعث الراحلة في النفوس بغض النظر عن اثاثه القليل وكان مكون من غرفتين نوم وغرفة معيشة صغيرة تحتوي على اريكتين قديمتين باللون البني وضعت امامهما طاولة خشبية مربعة الشكل عليها اناء زهور وغطاء مطرز يدوياً واخرى مرتفعة قليلاً وضع عليها تلفاز قديم الطراز ؛ بالإضافة الى المطبخ الصغير والحمام فابتسمت والتفتت الى فاطمة ثم قالت   :   انا اشكركِ لأنكِ سمحتي لي بالأقامة في منزلكِ فكما تعلمين انني لا املك مكاناً لأعيش فيه   .  

ردت عليها فاطمة بجدية   :   لا داعي للشكر يا عزيزتي فمنزلي هو منزلكِ ايضاً   ,   صحيح انه ليس كبيراً او فاخراً ولكنه يفي بالغرض كما انني واثقة انكِ ستشعرين بالراحة هنا   .  

هزت حنان رأسها واردفت   :   انا لا اهتم ان كان المنزل كبير او فاخر ويكفي انني وجدت سقف يأويني وهذا كل ما احتاجه   .  

فابتسمت فاطمة واخذت منها الحقيبة ثم استطردت قائلة   :   لقد جهزت لكِ الغرفة التي كنت امكث بها قبل ان اتزوج وقد قمت بغسل الأغطية جيداً حتى تتخلص من رائحة الرطوبة فبدت وكأنها جديدة لذا تعالي معي لكي ترينها   .  

أومأت لها حنان بابتسامة ولحقت بها الى الغرفة حيث وجدتها غرفة صغيرة جدرانها بيضاء اللون وتحتوي على سرير يتسع لشخص واحد وخزانة ذات بابين صنعت من خشب البلوط الصلب بالإضافة الى طاولة الزينة التي كانت ملتصقة بمرآة مكسور طرفها وتحتوي على درج واسع ؛ وضع امامها كرسي خشبي طلائه مخدوش   .     .   كانت هذه الغرفة نظيفة ومرتبة وتحتوي على نافذة واحدة تطل على الحديقة اسدل فوقها ستارة قديمة من قماش الدانتيل لونها عاجي يتناسب مع لون اغطية السرير فابتسمت حنان عندما استشعرت الدفئ المنبعث منها والتفتت الى فاطمة ثم هتفت بنبرة سعيدة   :   شكراً لكِ يا فاطمة   ,   ان الغرفة اكثر من رائعة وقد ذكرتني بغرفتي عندما كنت صغيرة   .  


فابتسمت فاطمة وقالت   :   انا سعيدة لأنها اعجبتكِ يا عزيزتي   ,   سأدعكِ تأخذين قسط من الراحة الأن بينما سأذهب لأتفقد القدر الذي على الموقد فانا كنت اعد بعض الطعام قبل مجيئكِ ومن الجيد انكِ اتيتي الأن لكي نتناول الغداء معاً   .  

حنان   :   حسناً   ,   سأقوم بتعليق ملابسي في الخزانة وسأتي لكي اساعدك بعد ذلك   .  

فاطمة   :   لا داعي لأن تتعبي نفسكِ فانا انتهيت تقريباً   ,   عن اذنكِ الأن   . 

 ثم خرجت من الغرفة وتركت حنان بمفردها فأخذت تنظر في الأرجاء ولا تعلم لما شعرت بأنها في منزلها ، تنهدت وفتحت حقيبتها وبدأت تخرج منها تلك الملابس القديمة والتي كان اكثرها فضفاضاً وباللون الأسود كما انها اخرجت زجاجة العطر الوحيدة التي كانت تمتلكها وعلبة مرطب البشرة التي شارفت على الأنتهاء وفرشاة الشعر ووضعتهن على طاولة الزينة وبعدها وضعت اطار الصورة التي كانت تجمعها مع امها وابيها عندما كانت في سن العاشرة وقد كانت هذه الذكرى الوحيدة التي تمتلكها من والديها الراحلان   .  

في المساء خرجت حنان من الحمام وهي تنشف شعرها وكانت ترتدي فستان بسيط وطويل وفضفاض لونه ابيض واكمامه كانت طويلة ايضاً فأبتسمت فاطمة التي كانت جالسة في غرفة المعيشة وتقوم بحياكة كنزة من الصوف وقالت لها   :   لقد اصبح الشتاء على الأبواب لهذا احضرت مدفئة كهربائية يمكنكِ تشغيلها ان كنتِ تشعرين بالبرد   .  

جلست حنان الى جانبها وقالت   :   لا داعي لذلك   ,   ان المنزل دافئ   .  

فنظرت اليها فاطمة وقالت بجدية   :   لا تقلقي بشأن فاتورة الكهرباء يا حنان فانا استطيع تدبر امرها   .  

تنهدت حنان واردفت   :   في الواقع لقد كنت افكر بهذا الموضوع وانا استحم وبما انني سأعيش معكِ فانا ملزمة على مساعدتكِ في دفع الفواتير ولكن كما تعلمين ان المبلغ الذي معي بالكاد يكفي لتغطية مصروفنا لهذا الشهر والشهر القادم لذا انا قررت ان ابحث عن عمل لنتمكن من اعالة انفسنا دون ان نكون بحاجة اي شخص   .  

فتنهدت فاطمة وقالت بأسى   :   ومن الذي سيقوم بتوظيفنا ونحن نمتلك سجلاً اجرامياً   ,   لقد فكرت بالبحث عن عمل منذ ان خرجت من السجن ولكن جميع من تقدمت للعمل عندهم طردوني عندما علموا بأنني قتلت زوجي لهذا اصبحت اشتري كرات الصوف بثمن بخس من سوق السلع المستعملة واحيك الأوشحة والكنزات وابيعها لأشخاص لا يعرفون انني مدانة بجريمة قتل وحمداً لله انني استطعت تدبر امري خلال الشهر الماضي   .  

 

حنان   :   ولكن يا فاطمة هذا ليس كافياً ونحن يجب ان نجد عمل يمكننا من كسب المال الكافي لأعالة انفسنا لأن حياكة الصوف لن تكسبنا الكثير كما تعلمين   .  

فاطمة   :   معكِ حق ولكن لا تقلقي فغداً سنذهب للبحث عن عمل وارجو من الله ان نتوفق بفعل ذلك   .  


عودة الى المستشفى   .     .     .     .     .     .     .     .     


كان الدكتور احمد يقوم بمعالجة مريض تم نقله الى قسم الطوارئ وكان يبدو جاداً وهو يقوم بخياطة الجرح الناتج عن المنشارة الكهربائية بينما كان المريض يبدو شاحباً لأنه فقد بعض الدم   ,   وبينما كان احمد مشغولاً رن هاتفه في جيب معطفه ولكنه تجاهله تماماً وتابع العمل ولكن الهاتف لم يتوقف عن الرنين لذا زفر الهواء من فمه بتذمر واخرجه ثم اراد ان يغلقه ولكن شيئاً ما في داخله حرضه على الأجابة ففتح الخط وقال بجدية   :   دانا انا مشغول الأن   .  


قال ذلك واراد ان ينهي المكالمة ولكن صوت بكاء الفتاة الفلبينية اوقفه عندما قالت بانفعال   :   انتظر يا سيدي لأن راما مريضة جداً   .  

في تلك اللحظة اتسعت عينا احمد عندما سمع ذلك وسألها بهلع    :   ماذا تقولين   ,   ولكن ما الذي اصابها فجأة ؟؟

فقالت دانا بلكنة مكسرة   :   لقد طلبت مني ان اصنع لها الحلوى وانا نسيت ان لديها حساسية من التوت البري لهذا اضفته الى المكونات   .  

صاح احمد بعصبية   :   اللعنة   ,   هل اعطيتها مضاد الحساسية ؟ 

دانا   :   اجل ولكنه لم يجدي نفعاً لهذا انا خائفة جداً فهي تتنفس بصعوبة وقد اصبح وجهها احمر للغاية   .  

ارتبك احمد كثيراً بعد سماعه لما اصاب ابنته الصغيرة ولم يعرف ما الذي يجب ان يفعله فهو مناوب ولا يجب ان يذهب الى المنزل وفي الوقت ذاته كان خائفاً على ابنته لذا قال باندفاع   :   حسناً يا دانا   ,   احضريها الى المستشفى بأقصى سرعة هل تسمعين ؟

فقالت دانا بسرعة   :   حسناً حسناً   .  

ثم انهت المكالمة   ,   اما هو فاعاد شعره الى الخلف بحركة من يده وقد دلت حركته على مدى توتره فسأله المريض الذي كان يعالجه حيث قال بصوت مبحوح   :   هل انت بخير يا دكتور ؟

نظر اليه احمد وأومأ برأسه قائلاً   :   انا بخير   .  

ثم عاد ليتابع عمله وعقله وفكره منشغلين   ,   وما هي الى عشر دقائق حتى وصلت دانا الى قسم الطوارئ وهي تحمل الطفلة بين يديها حيث بدت وكأنها على وشك الموت فركض احمد بأتجاهها ومعه ممرضة وسرعان ما اخذ ابنته وصرخ على الممرضة قائلاً   :   جهزي حقنة من الايبينفرين بسرعة   !   

اجابت الممرضة بتوتر   :   ح   .     .     .   حاضر   .  

قالت ذلك وذهبت لتفعل ما طلبه منها بينما قام هو بوضع ابنته على احد الأسرة والقلق يعلو وجهه وخصوصاً عندما رأها ترتعش وتتنفس بصعوبة اما دانا فكانت مرعوبة بكل ما للكلمة من معنى لذا وقفت تراقبه كيف اخذ حقنة الايبينفرين من الممرضة وحقن ابنته في فخذها وبدأ يدلك مكان الحقنة قائلاً بنبرة توسل   :   هيا يا حبيبتي   ,   تحملي قليلاً فقط   .   

وبالفعل بدأت راما تهدأ تدريجياً وشيئاً فشيئاً عاد تنفسها ليصبح طبيعياً واخذت حمرة وجهها تتلاشى مما جعله يطلق زفرة ارتياح وكذلك فعلت دانا التي قالت بأرتباك   :   انا   .     .     .     .   انا اسفة يا سيدي لم اقصد ان يحدث هذا   .  


التفت اليها وقد رمقها بنظرة غاضبة وقال   :   لقد اخبرتكِ اكثر من مرة بأن راما لديها حساسية من التوت البري وقد تموت ان تناولت ولو مقدار قليل منه لذا اخبريني اين كان عقلكِ حتى تنسي هذا الموضوع ؟

 أحنت دانا رأسها وقالت بصوت كاد ان يختفي   :   اعتذر بشدة   .  

تنهد احمد وقد هدأ قليلاً ثم أردف قائلاً   :   حسناً ولكن اياكِ وان يتكرر ما حدث اليوم هل هذا مفهوم ؟ 

أومأت له رأسها بالموافقة دون ان تقول اي شيء بينما عاد هو لينظر الى ابنته التي غطت في نوم عميق فانحنى وطبع قبله على جبينها المكسو بحبات العرق وبعدها نظر الى الممرضة وقال   :   سأدعها في عهدتكِ يا وفاء لأن لدي عمل ولا استطيع ملازمتها لذا ان شعرتِ بأنها ليست على ما يرام اتصلي بي فوراً   .  

ردت الممرضة المدعوة وفاء بصوت ناعم   :   لا تقلق يا دكتور فانا سأعتني بها جيداً   .  

احمد   :   شكراً لكِ   .  


قال ذلك ثم نظر الى ابنته نظرة اخيرة وبعدها تنهد وهم بالمغادرة ليعود الى عمله بينما اقتربت دانا من سرير الطفلة وانحنت لتمسح العرق عن جبينها وهكذا مرت تلك الليلة ؛ وفي صبيحة اليوم التالي استيقظت حنان من نومها في تمام الساعة الخامسة والنصف صباحاً لأنها كانت معتادة بأن تستيقظ مبكراً اذ أن نظام السجن كان يجبرها هي وكل السجينات بأن يستيقظن مبكراً وقد اصبح هذا الأمر عادة بالنسبة لها بعكس فاطمة التي بدأت تعتاد على نمط حياتها خارج القضبان حيث كانت سيدة نفسها منذ شهر مضى وتستيقظ في الوقت الذي يحلو لها فقررت حنان ان تدعها تنعم بنومها لذا دخلت الى المطبخ  لتعد الفطور ولكن عندما فتحت الثلاجة لم تجد فيها الكثير من المواد الغذائية مما جعلها تتنهد وتعاود اغلاق الباب وسرعان ما عادت الى غرفتها وبدلت ملابسها بأخرى مناسبة للخروج فأرتدت تنورة مخملية طويلة لونها بني وكنزة بأكمام طويلة باللون العاجي وقد اكتفت بتسريح شعرها على شكل ضفيرة ثم انتعلت حذائها الوحيد الذي اصبح مهترئاً وبعدها حملت حقيبتها وخرجت من الغرفة ومن ثم غادرت المنزل قاصدة الدكان القابعة في رأس الحي والتي لمحتها في اليوم السابق   .  


وعندما وصلت الى هناك وجدت المالك قد فتح دكانه للتو واخذ يردد دعاء الرزق فقالت له   :   صباح الخير يا عم   .  


التفت الرجل ذو الشارب اليها وقال   :   صباح الخير يا ابنتي   ,   هل تحتاجين للمساعدة ؟ 

نظرت هي اليه ولم تفهم ما الذي عناه في البداية ولكن سرعان ما اخبرتها نظرة الفضول التي علت وجهه بأنه ظنها متسولة اتت لتطلب منه الصدقة مما جعلها تشعر بالألم كثيراً ولكنها لم تشاء ان تظهر ألمها لذا ابتسمت وقالت   :   في الواقع لقد اتيت لشراء بعض الحاجيات ان لم تكن تمانع   .   


في تلك اللحظة شعر الرجل بالخجل من نفسه وقد ظهر على وجهه ذلك لذا قال بارتباك   :   بالطبع لا امانع   ,   تفضلي   .  


ثم افسح لها المجال لتدخل الى الدكان وبعدها دخل خلفها فاخذت تتلفت حولها لا تعلم من اين تبدأ فسألها الرجل قائلاً   :   هل تحتاجين لأي مساعدة ؟ 

فنظرت اليه وسألته   :   هل اجد عندك بعض علب المرتديلا ؟ 

الرجل   :   بالطبع   ,   ستجدينها على ذلك الرف   .  

قال ذلك ثم اشار الى احد الرفوف حيث كانت المعلبات مرتبة حسب الصنف فتوجهت الى المكان الذي اشار اليه واخذت اربع علب من المرتديلا وعلبتين من الزيتون الأخضر وعلبتين من الزيتون الأسود وعلبة كبيرة من التونة واخرى تحتوي على سردين ثم توجهت نحو طاولة المحاسبة ووضعت المعلبات امام الرجل فسألها قائلاً   :   اهذا كل شيء ؟ 

فقالت   :   اريد بعض البيض ايضاً ولوح من الجبنة الصفراء وعلبتين من الحليب وزجاجة من عصير الطماطم ودزينة خبز واحدة   .  

الرجل   :   ستجدين كل ما طلبتيه في الثلاجة الكبيرة وهي موجودة في نهاية هذا الرواق   .  

حنان   :   حسناً شكراً لك   .  

قالت ذلك ثم توجهت نحو الثلاجة وبالفعل وجدت كل ما طلبته فحملت الأغراض وعادت الى طاولة المحاسبة وعندما حسب الرجل جميع الأغراض قال   :   ان المبلغ الكلي مئة وخمسون   .  

اتسعت عينا حنان عندما سمعت ذلك وسألته   :   مئة وخمسون ؟   ,   ولكنني لم اشتري اللحم او الخضار فلما المبلغ باهض هكذا  ؟

الرجل   :   لقد ارتفع سعر البيض والخبز كما انكِ اشتريتي الكثير من المعلبات وصدقيني يا ابنتي انني راعيتكِ فانتِ تدخلين دكاني لأول مرة   .  

هزت حنان رأسها وقالت   :   انا لا استطيع ان ادفع لك هذا المبلغ يا عم لذا راعيني قليلاً  فانا انتقلت للعيش في هذا الحي وارغب بأن اكون زبونة دائمة لديك شرط ان تراعيني   .   

فتنهد الرجل وقال   :   حسناً اعطيني مئة واربعون   .  

فقالت بأصرار   :   مئة وثلاثين وسوف اصبح زبونتك فما قولك ؟ 

قال الرجل بقلة حيلة   :   حسناً   .  

ابتسمت له واخرجت من محفظتها المبلغ المطلوب ثم شكرت الرجل وحملت الأكياس وبعدها خرجت من الدكان وسرعان ما عادت الى المنزل فوجدت فاطمة مستيقظة وقد ابتسمت لها وقالت   :   لقد علمت بأنكِ ذهبتي لشراء بعض المواد الغذائية لأن ثلاجتي تكاد ان تكون فارغة   .   

فابتسمت حنان ووضعت اكياس المشتريات على الطاولة واردفت قائلة   :   انا اسفة ولكنني لم استطيع شراء اللحم فنحن بحاجة لتوفير كل قرش ووضعنا الحالي لا يسمح لنا بأن نتناول اللحوم ولكنني اشتريت المرتديلا والتونة والسردين بالأضافة الى البيض والجبن وغيرها وسوف اعد لكِ اشهى فطور على الأطلاق فقط انتظري قليلاً   .  

ثم حملت الأكياس واخذتها الى المطبخ   ,   اما في المستشفى فانهى الدكتور احمد عمله وكان لا بد له وان يذهب الى منزله لكي يستريح فهو قضى الليلة الماضية ما بين العمل والأهتمام بأبنته التي قرر ان يدعها تمكث في المشفى تحسباً لأي طارئ ومن حسن الحظ انها تجاوزت مرحلة الخطر ونامت الليل بطوله لذا حملها برفق حتى لا تستيقظ وخرج من مبنى المشفى وخلفه الفتاة الفلبينية دانا ثم صعدوا في سيارة الـ Jeep خاصته ذات اللون الرمادي الغامق وهموا بالمغادرة   .  


مرت الساعات الأولى من ذلك اليوم على فاطمة وحنان اشبه بالجحيم حيث انهن وجدن ثلاث وظائف شاغرة في ثلاث اماكن مختلفة فكانت الوظيفة الأولى في متجر كبير يبحثون فيه عن عاملات  اما الثانية فكانت في ورشة خياطة والثالثة كانت في مطعم متوسط الجودة يبحث عن عاملات لتنظيف الأطباق ولكن لم يقبل اي واحد من الأماكن الثلاثة ان يوظفهن عندما علموا بأن لديهن سجل اجرامي حيث انه من الطبيعي ان يسأل صاحب العمل اذا ما كان الشخص المتقدم للوظيفة مناسب ام لا ومع الأسف سجلهن الأجرامي كان القشة التي قسمت ظهر البعير لذا تملكهن الحزن فالحياة قاسية وان لم يجدن اي عمل في القريب العاجل سيقعن في ورطة حقيقة   ,   وبالرغم من ذلك رفضت حنان ان تستسلم لليأس لذا اقترحت على صديقتها فاطمة ان يتوقفن عن البحث عن عمل لهذا اليوم ويتابعن ذلك في اليوم التالي كما انها اقترحت عليها ان يتفسحن قليلاً في المدينة لعل حالتهما النفسية تتحسن قليلاً فوافقت الأخيرة وقد اعجبتها الفكرة وخصوصاً لأن حنان اخبرتها بأنها ترغب بزيارة المجمع التجاري الكبير حتى وان لم تكن تنوي شراء اي شيء   .  

  -   ذهبن الى هناك بالفعل واخذن يدخلن الى المتاجر ويلقين نظرة على الملابس وعندما يشاهدن الأسعار الباهضة بالنسبة لهن يهربن بسرعة وبعدها ينفجرن بالضحك   ,   وفي الوقت ذاته كان احمد قد قرر اخذ ابنته راما لشراء بعض الملابس الجديدة بمناسبة عيد ميلادها السادس وقد طلب من جوري زوجة صديقة الدكتور منير ان ترافقه فهو بحاجة لمساعدتها لأنه لا يفهم بهذه الأمور حيث كانت زوجته الراحلة ليان هي من تهتم بمتطلبات الطفلة فقبلت جوري العرض بصدر رحب ورافقتهما الى المجمع التجاري فقامت بأختيار الكثير من الملابس الشتوية الجميلة من اجل راما استعداداً لفصل الشتاء الذي اصبح على الأبواب ومن ثم قرر احمد ان يتناولوا الغداء قبل ان يذهبوا الى مدينة الملاهي كما وعدت جوري راما في اليوم السابق   .  


فجلسوا ثلاثتهم حول طاولة صغيرة في الساحة القابعة في الطابق السفلي من المجمع التجاري وبدت راما سعيدة لأن والدها قضى النهار بطوله معها وخصوصاًَ لأن اليوم يصادف عيد ميلادها كما انها كانت سعيدة بتواجد جوري والتي تعتبرها عمتها وتحبها كثيراً لذا لم تتردد بالأفصاح عن رغبتها في اللعب على الألعاب البسيطة التي خصصتها ادارة المجمع التجاري لتسلية الأطفال فسمح لها والدها بفعل ذلك شرط ان لا تبتعد كثيراً بينما جلس هو وجوري واخذا يتحدثان فقالت له   :   من الجيد انك خرجت برفقتها بهذا اليوم فهي تبدو سعيدة   .   

فتنهد احمد وقال   :   كان لا بد وان افعل هذا حتى لا تعاود ذكر موضوع الأشتياق الى امها فهي كانت مريضة في الأمس ولا ارغب بأن تسوء حالتها   .   

جوري   :   لقد سمعت من الممرضة وفاء ان دانا اخطأت ووضعت التوت البري في الحلوى التي صنعتها من اجل راما لهذا هل قمت بتوبيخها بسبب هذا الخطأ ؟ 


احمد   :   اجل وقد طلبت منها ان تكون اكثر حذراً في المرة القادمة   .   

تنهدت جوري واردفت   :   لقد اصبحت هذه الفتاة كثيرة النسيان في الأونة الأخيرة فهل تعتقد انها تحن للعودة الى وطنها  ؟

احمد   :   بالتفكير في الأمر انا اعتقد انها كذلك فقد رأيتها اكثر من مرة شاردة الذهن لهذا افكر في فصلها من العمل وارسالها الى الفلبيين فمن الظلم ان ابقيها لتعمل عندي في حين انها ترغب بالعودة الى بلادها   .  


جوري   :   وهل سألتها بهذا الخصوص ؟


احمد   :   ليس بعد ولكن سأقوم بسؤالها هذا المساء وان كانت راغبة في العودة فعلاً فلن اقف في طريقها وسأبحث عن بديلة لها لتعتني بأمور المنزل   .  

  -   وبينما كانا يتحدثان عن دانا اتت كل من حنان وفاطمة ثم جلسن بعيداً عنهما لما يقارب الخمس مترات حيث اقترحت فاطمة ان يتناولن غدائهن خارجاً بما انهن اتين الى المجمع التجاري فابتسمت حنان وقالت   :   دعينا لا نهتم بشأن النقود لهذا اليوم واخبريني ما الذي ترغبين في تناوله ؟ 

كتفت فاطمة ذراعيها وقالت   :   افكر في تناول البيتزا فانا لم اتناول هذا النوع من الطعام منذ سنوات   .  

حنان   :   انها فكرة جيدة   ,   حسناً سأذهب للتوصية فهل تريدين شيئاً اخر ؟

فاطمة   :   كلا   ,   هذا كل شيء   .  

حنان   :   حسناً   ,   لن اتأخر   .  


ثم نهضت وتوجهت لتوصية الوجبة وهنا لعب القدر لعبته حيث قام العامل في محل البيتزا بأستدعاء احمد ليخبره ان طلبه اصبح جاهزاً لذا استأذن من جوري ونهض ليحضر الوجبة العائلية التي طلبها فوقف بجوار حنان لبرهة من الزمن دون ان ينظر اليها او تنظر اليه وسرعان ما احضر له العامل وجبته فأخرج محفظته ليدفع ثمن البيتزا واثناء قيامه بفعل ذلك سقطت من المحفظة صورة صغيرة كانت تجمعه مع زوجته وهي حامل فلم ينتبه اليها بل نادى ابنته الصغيرة فركضت نحوه ثم عادا معاً الى حيث كانت جوري جالسه وفي تلك الأثناء احنت حنان رأسها لكي ترى كم من المال يوجد في محفظتها فوقع نظرها على الصورة التي كانت بالقرب من قدمها لذا انحنت والتقطتها ثم نظرت الى الرجل وزوجته وقالت   :   يبدو ان احدهم اوقع هذه الصورة دون ان ينتبه   .   


قالت ذلك ثم اخذت تتلفت حولها كمن يبحث عن شخص معين فوقع نظرها على احمد الذي كان يضع قطعة بيتزا في طبق ابنته فعادت ونظرت الى الرجل الذي في الصورة وتأكدت من انه الرجل ذاته ولأن جوري كانت جالسه ووجهها مقابلاً لأحمد وراما لم تستطيع حنان ان تميز اذ ما كانت هي المرأة الموجودة في الصورة ام لا لذا اشارت الى صديقتها فاطمة بأن تمهلها دقيقة وبعدها توجهت الى طاولة احمد وحين وصلت قالت   :   ارجو المعذرة ولكن اعتقد انك اوقعت هذه الصورة يا سيد   .   


رفع كلٍ من احمد وجوري والطفلة راما رؤوسهم عندما سمعوا صوتها الأنثوي وقد اتسعت عينا احمد عندما رأى الصورة بيدها فنهض من مكانه بسرعة وأخذ الصورة من يدها بطريقة اجفلتها واردف قائلاً   :   يا الهي   ,   هل وقعت مني حقاً ؟ 


قال ذلك ثم نظر الى حنان واضاف قائلاً   :   شكراً لكِ يا انسة   .   

ولكن حنان لم ترد عليه لأنها كانت تحدق بالرجل الذي كان واقفاً خلفه وبرفقته امرأة وطفل وكانت نظراتها تحمل بعض القسوة الممزوجة بالألم مما جعل احمد يقطب حاجبيه بتساؤل عندما رأى تعابير وجهها وسرعان ما التفت للوراء حيث رأى ذلك الرجل الذي تحدق به واقفاً ويبدو مصدوماً من رؤيتها   .  


يتبع...........

تعليقات